لا زال يشدني الحنين إلی حينا في نسخته القديمة التي تختلف جذريا عما أصبح عليه اليوم ولا زال صوت جدتي يرن في أذني بلهجة يطغى عليها الطابع الأمازيغي الريفي المعهود لذی سكان طنجة ولا زال صوت الحاج الخريبي صاحب الغرسة الشهيرة يرن هو أيضا في أذني وكان جهيرا
مرتفعا تطفی عليه لكنة أهل المدينة الاقحاح فالرجل من حي درادب العتيق . ولا زال صوت الحاج سي المصطفى هو الآخر يتردد علی ذاكرتي بنبرته ولكنته الآتية من ضاحية طنجة جهة الزياتن خندق كور
وكذالك صوت محمد الصحراوي أولاد بن علي بلكنته الآتية من منطقة تافيلالت، وصوت السيد العرفاوي بلكنته التي تشبه لكنة إخواننا وسط
المملكة وصوت سي محمد العموري بلكنته الآتية من منطقة الزميج بانجرة فقد كان أصله من هناك. كما كانت هناك سيدة وأولادها تطفی عليها لكنة أهل سوس إذ كان مقدمها من أغادير.
كل هذه الأصول وغيرها مما لم أذكره سكنت وتجاورت في حينا الجميل
وعاشت حياة الانس ببعضها متعاونة ومتحابة ولم تكن أي حساسية عرقية تعكر صفو المحبة وحسن الجوار الذي كان بين أهل حينا.
كان أول من سكن وجاور المقبرة جدي رحمه الله الذي في الصورة والذي كان يدعی بالفقير، فقد جاء إليها سنة 1949 علی الأرجح باقتراح من أحد الأجانب الذي كان يملك معظم الأراضي المجاورة بالمقبرة من جهة الشرق. وخصص له هذا الأخير مسكن محاذي لمقبرة المجاهدين قال لي ابي رحمه الله انه كان في الأصل اصطبلا للخيل ترجع ملكيته إلی السلطان عبد العزيز وكان فسيحا فبنی
جدي فوقه غرفة لسكنه وخصص الأصطبل حظيرة للبقر ولا زال الأمر كذالك حتى باع ذالك الأجنبي كل تلك الجهة للسيد عبد السلام حسيسن
فشرع هذا الأخير ببيع قطع أرضية للسكان الذين قطنوا في ذالك الحي فكان السيد حسيسن يبيع لهم القطع بعقود ابتدائية عبارة عن وعود بالبيع يدفعون له بموجبها اقساطا علی أن يسلموا العقود النهائية حال إتمام المبلغ الإجمالي وكانت هذه الوعود تكتب بالاسبانية في مكتب كان يتولاه أحد أبناءه بالسياغين . لكن هذه الوعود لم تترجم الی ملكيات بصيغ نهائية رغم تسديد أغلب أهل الحي اقساطهم مما أدى إلی مشاكل في المستقبل جعلت كل أغلب أهل الحي يتخلون عن مساكنهم بتعويضات زهيدة وافرغ الحي من ساكنيه وأقيم مكانه مجمع لفلات تطل علی البحر من جهة الشمال وعلى أشجار الكولف الملكي من جهة الغرب.
كان أول من اشتری قطعته من السيد عبد السلام حسيسن الحاج الخريبي رحمه الله الذي كان يقطن في الدرادب فقد اشتری منه القطعة التي كان بها جدي فتحول جدي إلی قطعة اخری اشتراها هو الآخر من السيد احسيسن .
أحس اني قد أثقلت عليكم بتفاصيل تاريخ حينا لذا اقترح عليكم العودة لاحقا إلی ذكريات حي لم يبق إلا في الذاكرة.
ملحوظة: للأمانة فقد كان في المقبرة رجل فاضل وزوجته وأولاده يسكن في بيت عن يسار مدخل المقبرة في المكان الذي خصص من بعد
لغسل الأموات وقد قال لي ابي رحمه الله وأمي شفاها الله أنه كان مكلفا بالحراسة والاعتناء بالمحلة الكبرى داخل المقبرة وبعض القبور القديمة التي يرجع تاريخها إلی عهد الجهاد ضد الإنجليز. وقد ذكر لي أن العلامة سيدي عبد الله كنون كان يتردد علی هذا المكان ويساعد هذا
الرجل ببعض المال والخبز. وهذا الرجل كان يدعی الهيشو. ولا أدري في أي سنة جاء إلی المجاهدين غير أنه لم يبق طويلا فيها فقد غادرها بمجرد افتتاح المقبرة رسميا سنة 1962 وسكن في مرشان . والظاهر انه كان قبل جدي في هذا المكان بقليل.
بقلم : علي المرابط
2025-01-12 00:36:55