أواصل الحديث عن مهن كانت مزدهرة ولكنها تراجعت وكادت أن تختفي، أو ساءت سمعتها بعد ممارستها من طرف من لا يتقنها، وإليكم هذه الثلاث:
-أولا بائع الحليب El lechero: نظرا لتطور الحياة في المدن وإعادة هيكلتها، لم نعد نسمع نداءات بائع الحليب الطبيعي الذي كان يمر أمام منازلنا، بل أكثر من هذا أتذكر في طفولتي أن راعيا إسپانيا كان يمر أمام بيتنا ويطلب أهلنا منه نصف لتر حليب ، فيأخذ عنزته وبحلبها أمامنا، ويسلم لنا الحليب ساخنا. لم يعد في المدن الكبيرة بائع للحليب، وعوضته شركات تعبئة الحليب المبستر،
-ثانيا ماسح الأحذية Limpiabotas : كان لهذه المهنة أهلها المحترفون، وكانت لهم أماكن قارة ينتظرون فيها زبناءهم، ولكنها اليوم أصبحت مهنة من لا مهنة له، يحمل الواحد منهم صندوقا ويتجول في المدينة بحثا عمن يمد له رجله. ولي حكاية طريفة مع أحد ماسحي الأحذية الإسپان، زرت سنة 1970 مدينة إشبيلية، وبينما أنا أتجول داخل باحة المسجد الأعظم المشهور بصومعته لا خيرالدا، والذي بناه أجدادنا المغاربة أيام الموحدين، وقد أحيت مشاهد المسجد الذي تحول إلى كتدرائية كثيرا من التأثر والأسى، فإذا بماسح أحذية إسپاني يباغتني بطلبه أن يمسح حذائي، فقلت مع نفسي: هذه فرصة أهين فيها هذا الإسپاني الذي اغتصب أجداده منا هذا المسجد، وافقت وسبقني إلى ظل شجرة برتقال، والتي كانت الساحة كلها تعبق بأريج الزهر. مسح حذائي فمددت له خمسين بسيطة 50 Pesetas ، ما يوازي خمسة دراهم، وكنت في المغرب أمنحه خمسين سنتيما عهدئذ. لكن الإسپاني الشقي لم يقنع بالخمسين بسيطة، وطالبني بمائة ( عشرة دراهم) فسلمتها له، وقلت : هذه بتلك!
- ثالثا الشورو Churros: قبل عشرين سنة، كانت محلات إعداد الشورو في مدن الشمال تعد بالعشرات، لكنها الآن كادت تنقرض، وحتى هذه التي صمدت، يبدو أن المهمة أسندت لغير أهلها، كان آخر محترف للشورو مشهود له بالإتقان هو المعلم العربي في شارع المكسيك الذي كان يزاول المهنة كهواية وليس للارتزاق، وكان يعمل خلال حصتين منفصلتين، واحدة في الصباح إلى حدود العاشرة، وأخرى في المساء بعد الزوال إلى المساء.
لقد غُلِب الشورو على أمره، وانسحب منهزما أمام جحافل المسمن والحرشاء، التي ترضي نهم كل أكرش وكرشاء ! أما الأهيف الأنيق، فلا يجد ما يشاء!
بقلم : ادريس اعفارة
27 يناير 2023
2025-01-11 23:32:29